إنّ استشهاد نبيل البركاتي مناضل الحرية في 8 ماي 1987 لم يكن أوّل موت تُسجَّل في بلادنا تحت التعذيب كما لم تكنْ، وللأسف، آخرَ حالة وفاة في السجون ومراكز الإيقاف ومخافر التعذيب.
ولكنّ تلك الجريمة التي مرّ عليها اليوم 26 ربيعا لم تكن حدثا عاديا كما تصوّرها وأرادها الجلادون والمنفذون والآمرون والمتآمرون والمتسترون عليها.
ذلك أنّ شهيد الحرية خاض صراعا لا يوصف ويصعب تصويره ويستحيل تصوّره ضدّ جلاد هو جهازُ تنفيذٍ في نظام بوليسي مؤسس على ثقافة العنف يرفض حق المواطن في التفكير والتعبير وقد جعل من التعذيب وسيلة تحقيق أساسية وأولية في قضايا الرأي كما في قضايا الحق العام.
فمهمّة الجلاد كانت دوما ثني المواطن عن المطالبة بأدنى حقوقه فما بالك إذا تعلق الأمر بالاهتمام بالشأن العام.
ولكنّ جلاد شهيدنا لم يكن جلادا هكذا فحسب بل كان أيضا وإضافة إلى ذلك معتقدا في امتلاكه الحقيقة « المطلقة والمقدسة » دون غيره وأنّ ذلك يخوّل له بل يشرِّع له حقّ تكفير من يتجرّأ على التفكير واستعدائه والتنكيل به لمّا يقع بين براثنه.
وممّا زاد في عَمَى الجلاد وجُنونه فحوى البيان الذي وزّعه نبيل ورفاقه والذي ينصّ بصريح العبارة على أنّ الصراع بين السلطة والظلاميين لا مصلحة للشعب فيه.
لقد أصرّ نبيل في البداية على الدفاع عن حزبه. ولكنّه، وفي مرحلة ثانية من صراعه مع الجلاد، استمات دفاعا عن حزبه وأفكاره ومبادئه وإنسانيته. لقد خيّر بصفة واعية التخلي عن حقّه في الحياة مقابل التمسك بجملة أخرى من الحقوق، كالحق في التفكير والتعبير والتنظم والضمير والكرامة… وتحدّي الجلاد وآلته وانتصر عليه بقبول الموت دون الرضوخ لإرادته المستبدّة.
وجعلت العائلة ومدينة قعفور ونشطاء حقوق الإنسان ومناضلو الحريّة والمثقفون والفنّانون وأصدقاء الشهيد ورفاقه… لقد جعلوا جميعا من إحياء الذكرى تقليدا نضاليا سنويا وموعدا تلتقي فيه كلّ مكونات المجتمع المدني والسياسي حول قبر الشهيد للتنديد بجريمة التعذيب وللتأكيد على الوفاء للمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة المنعقدة على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية كما لتقييم الأوضاع العامة بالبلاد والدعوة لرصّ الصفوف في مواجهة منظومة الاستبداد.
وتَواصل إحياءُ ذكرى الشهيد دون انقطاع وذلك حتّى في سنوات الجمر الأشدّ قمعا. فلقد تمّ تنظيمها بصفة جماهرية ومشاركات عريضة عديد المرات كما تقلص الحضور في بعض السنوات نتيجة محاصرة النشطاء ومناضلي الحرية ومنعهم من مغادرة مدنهم (مثلما كان يحدث في تونس وبنزرت ونابل والقيروان والمنستير وسوسة وصفاقس وقفصة وغيرها…).
وكانت أعداد غفيرة من مختلف الأجهزة الأمنية تضرب على مدينة قعفور ومداخلها ومسالكها حصارا وصل في إحدى السنوات إلى حدّ إغلاق متاجرها ومقاهيها ومخابزها… تنكيلا بالمدينة لاحتفائها بالوافدين.
ولقد بلغ الجنون بنظام الاستبداد في إحدى السنوات الأخيرة إلى حرث مقبرة الشهيد وزرع المسامير بمدخلها لتخريب عجلات السيارات الوافدة (!).
وقبيل الثورة، ولمّا قرّ عزم النظام على منع الوصول إلى مدينة قعفور منعا باتا أصبح إحياء الذكرى يتمّ بصفة علنية في فضاء السجن المدني 9 أفريل (بعد هدمه) كما كان يُحييها عدد محدود من رفاقه وعائلته ونشطاء حقوق الإنسان بزيارة القبر بصفة سريّة ويعلنون عنها بعد ذلك عبر المواقع الاجتماعية.
وأصبحت الذكرى تقليدا لا محيد عنه.
فأفرزت هذه الممارسة النضالية المشتركة والطويلة جملة من الأشكال النضالية والأطر المستحدثة.
فمنذ السنوات الأولى ظهرت لجنة للسهر على تنظيم الذكرى أطلق عليها اسم « لجنة إحياء ذكرى شهيد الحرية ».
وفي خضمّ الممارسة وقع اقتراح يوم 8 ماي يوما وطنيا لمناهضة التعذيب. وهو مقترح سرعان ما تداولته كافة مكونات المجتمع المدني والسياسي ثمّ تبنته وعملت على تكريسه.
ولم يتوقف نشطاء حقوق الإنسان عند التنديد بظاهرة التعذيب بل انتظموا، انطلاقا من ذكرى الشهيد ومن اليوم الوطني لمناهضة التعذيب، واعلنوا عن تأسيس المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب. التي نشطت وأدّت وظيفتها ولعبت دورا بارزا بفرض وجودها الشرعي رغم عدم اعتراف السلط بوجودها قانونيا.
وفي الأثناء تقدّم أحد مناضلي الحرية بمقترح تدارس إنشاء « معهد نبيل بركاتي لحقوق الإنسان »
وارتأى غيره ضرورة بعث « مؤسسة نبيل بركاتي… »
واليوم، وبمناسبة الذكرى 26، وبعد ثورة الحرية والكرامة، وبعد سلسلة من المشاورات والنقاشات والجلسات بين لجنة تنظيم الذكرى وعائلة الشهيد وثلة من أصدقائه ورفاقه، واستجابة لحاجة ملحة ومتأكدة في بعث منظمة تسهر على تأطير وتطوير الأنشطة الرامية لتحقيق الأهداف المرسومة من خلال إحياء الذكرى، قرّ العزم، اليوم، على بعث جمعية أُخْتِيرَ لها اسم: « منظمة شهيد الحرية نبيل بركاتي ذكرى ووفاء ».
ويطمح كل الذين ساهموا من قريب أو من بعيد، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، في إنشاء « منظمة شهيد الحرية نبيل بركاتي ذكرى ووفاء »، إلى أن يجعلوا منها وسيلة لتحقيق الأهداف التي اجتمع عليها كلّ الأحرار منذ اليوم الأوّل وكرّسها رفاقه وأصدقاؤه وأهله وكلّ مناضلي الحريّة ونشطاء حقوق الإنسان ومكونات المجتمع المدني وهي الأهداف الواردة بعنوانها والمنصوص عليها في نظامها الأساسي كالآتي:
إحياء ذكرى الشهيد-اليوم الوطني لمناهضة التعذيب بالمساهمة في تنظيمها كما جرت العادة مع العمل على تطويرها وإثرائها باتجاه إرساء مهرجان دوري والعناية بالمقبرة وقبر الشهيد والعمل على بعث متحف يخلّد ذكرى شهيد الحرية ويكون بمدينة قعفور.
الوفاء للمبادئ والقيم التي آمن بها شهيد الحريّة وناضل من أجلها واستشهد في سبيلها وهي قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والمساهمة في نشر هذه القيم وثقافة حقوق الإنسان ومناهضة ثقافة التعذيب ومسوغاتها الفكرية.
من هذا الصراع المتواصل، على مدى يفوق الربع قرن، بين إرادة الحياة وقوى الظلام نشأتْ منظمتنا، منظمتكم.إنَّ « منظمة شهيد الحرية نبيل بركاتي ذكرى ووفاء » لبنة جديدة تنضاف إلى الأطر العاملة في حقل حقوق الإنسان وهي جزء لا يتجزّأ من مكونات المجتمع المدني المنحازة إلى قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
ڨعفـــفور في 9 جــوان 2013
Leave A Comment